مأزق النقد الأدبي الرقمي: الرواية المرئية بين الأدب واللعب مثالا
د.أحمد زهير الرحاحلة *
بعد التهافت المفرط من قبل صانعي السينما والدراما التلفزيونية على تحويل الأعمال الروائية الأدبية إلى أعمال سينمائية ودرامية، أطلق بعض النقاد مصطلح "الرواية المرئية" توصيفا للمشهد، وتباينت وجهات النظر حول المسألة بين معارض ومؤيد، ورأى المعارضون أن تلك الأعمال –مهما بلغت درجة إتقانها- لن تتسع للأصل الروائي، ولن تبلغه، ولا تخلو من تهديد لجنس أدبي عريق، إلى جانب مآخذ يغني العلم بها عن ذكرها في هذا المقام، وفي المقابل فإن المؤيدين ينتصرون انتصارا كبيرا لهذه الأعمال، ويرون فيها خدمة للإعمال الروائية، ومنفعة للروائيين، ومساعدة للمتلقيين، إلى جانب محاسن نتجاوز عن ذكرها وترديدها.
ليس المقصد بعد هذا التقديم إعادة اجترار الجدال بين التأييد أو المعارضة، وإنما تحليل الحالة، وربطها بالمستجدات العصرية، والتحولات التي تشهدها الأجناس الأدبية، ولكن إذا قاربنا المسألة فيمكن القول إذا قص أحدهم عليك رواية لم تقم بقراءتها قصا تاما، فهذا يشبه أن تعرض لك الشاشة عملا روائيا لم يسبق لك قراءته، ثم إذا ما عدت وقرأت بنفسك الرواية الأصلية، فعندها سيصدر حكمك على التجربة، وتقرر أي أساليب التلقي كان الأمثل لك.
ما سبق – للآن- يمثل هامشا معرفيا لدى المهتمين والمشتغلين بما يصطلح عليه "الأدب الرقمي" من جهة الأدباء والنقاد على الأقل؛ ذلك أن صورة الجدل السابقة انتقلت إلى حقل الأدب الرقمي الناشئ عربيا، بين معارض لمبدأ الحديث عن إمكانية توظيف العناصر والتطبيقات التكنولوجيا في بناء الأعمال الأدبية – والتخصيص عندي في هذا المقام هو للرواية والسرد- وبين مؤيد ومنادٍ لهجر التقنيات والأساليب الأدبية التقليدية – أو الورقية كما يحلو للبعض وصفها- في بناء الأعمال الأدبية، استشرافا لرؤية عصرية ترى أن التكنولوجيا وتطبيقاتها باتت عنصرا أساسيا من عناصر وجودنا، وحتمية مستقبلية قد ترقى للسيطرة على وجودنا ذاته.
المشهد الإبداعي العربي الراهن يعيش مأزقا كبيرا، وحالة من التخبط والعمي تجاه الأدب الرقمي، فإذا تجاوزنا الحديث عن موقف الرافضين رفضا مطلقا لإقحام التكنولوجيا في الأدب، فإن العماية والتخبط تمثل أزمة بين المؤيدين والمشتغلين في الأدب الرقمي، وعلى سبيل المثال، فإن جانبا تراجيديا من المسألة يظهر في غياب وعي دقيق بمفهوم الأدب الرقمي، والأنواع المنضوية تحت لوائه، بل إن الخلاف قد يشتد حول مصطلح "رقمي" و"إلكتروني" و"تكنولوجي" وربما تجد من يريده "تفاعليا"، ومع أن هذا الأمر قد يكون ظاهرة طبيعية، إلى أن حسمه بات يحتاج إلى سرعة وحزم، وحتى لا يقال لنا رمتني بدائها وانسلت، فقد أكدت استقراري على استعمال توصيف "الرقمي" لأسباب ورد أهمها تفصيلا واستشهادا في كتابي "نظرية الأدب الرقمي" وغيره من البحوث الأكاديمية، ومنها: أن هذا الاصطلاح هو الغالب والأكثر استعمالا عند الغربيين الذين ابتكروه وجعلوا غيره فروعا منه، ولأن الأعمال الأدبية الرقمية العربية ما زالت مضغة – كما وكيفا- مقابل ما أنتجه الغرب، ولأن بعض رواد المشتغلين العرب في هذا المجال قد اختار ترجمات مضللة أو خاطئة للمصطلح الغربي والأنواع التي أوردها في سياق التأسيس، ولأن من جاء بعد هؤلاء الرواد تلقفها بوصفها مسلمات وحقائق دون أن يتثبت منها أو يحاورها.
مثال آخر على حالة العماية والتخبط يبرز في الممارسة النقدية ذاتها، فغياب الوعي الدقيق والشمولي بمفهوم الأدب الرقمي، جعل بعض المهتمين يتوهم أننا –عربيا- نملك نقدا أدبيا رقميا، ويطلق بيسر وسهولة مسمى "الناقد الرقمي" على نفسه وعلى غيره، والحقيقة أن هذا وهم وزعم يدعو إلى حث من يقترفه على مراجعة المشروع الذي يشتغل فيه، فنحن في الحقيقة لا نملك نقدا رقميا أو ناقدا رقميا إلا بالمعنى المجازي، وإنما نمارس نقدا للأعمال الأدبية الرقمية، من خلال ناقد للأدب الرقمي، ولو سألت أو بحثت عن أدوات من يمارس النقد الأدبي الرقمي – ونحن منهم- لما وجدت لديه سوى أدوات نقدية مألوفة يصلح تطبيقاها على الأدب خارج حدود اتصاله بالتكنولوجيا، ولا يخلو هذا المشهد من أصوات محدودة جدا تطالب بنقد رقمي حقيقي وناقد رقمي حقيقي لا يقلان في التنظير والتطبيق والأدوات عن الأعمال الأدبية الرقمية.
مثال آخر من العماية والتخبط يتمثل في الكم النظري للمؤلفات والدراسات التي تتصدى للأعمال الأدبية العربية الرقمية، فلا مراء أنها باتت تمثل -إلى حد كبير- كثرة كغثاء السيل، فهي تتسم بالتكرار والاجترار، والخلط وسوء الفهم، ولا تقدم شيئا يذكر أو يسهم في تطور المشهد، بدليل الجمود والتراجع الذي تعيشه الأعمال والإبداعات الرقمية العربية، ونضرب مثالا على ذلك من الشعر الرقمي العربي، فالمشهد كله لا يحتوي إلا قصيدة الشاعر العراقي مشتاق معن "تباريح رقمية" وفي المقابل فإن عدد الكتب والدراسات والمقالات التي دارت حولها يتجاوز المئات، ولو سألت المبدع نفسه – وهو أكاديمي ومتخصص – عن جودتها ونوعيتها لأكد لك أن الأول لم يترك للآخر شيئا، وأن ما فيها من إضافة حقيقية لا يكفي لإنجاز مقال نقدي، والحالة أعظم مع الروائي الأردني ورائد الأدب الرقمي العربي محمد سناجلة.
مثال أخير من العماية والتخبط يتمثل في حالة الأمية الرقمية التي يرتع فيها أغلب الأدباء والنقاد العرب – ونحن منهم- ، ذلك أن المعرفة الرقمية والتكنولوجية لا تقف عند حدود القدرة على التعامل مع جهاز الحاسوب فتحا وإغلاقا، وتحميل التطبيقات والبرامج العامة كالصوت والصورة والتشعيب، أو حتى إنشاء المواقع وصفحات التواصل، فهذا كله بات متطلبا من متطلبات الحياة العصرية يشترك فيه الناس جميعا، ويختلفون في مقدار اقتدارهم عليه، إن فهم الأدب الرقمي وإبداعه يحتاج إلى معرفة إلكترونية عميقة، وتعلم وتدرب ومواكبة وتحديث، ثم يأتي بعد ذلك تجريب وتطبيق، يقصد إلى الابتكار والتميز، مما يعني أن الإبداع الأدبي، والنقد الأدبي لن يماثلا في تحولهما الرقمي عملية تصوير كتاب ورقي بالماسح الضوئي ونشره إلكترونيا، ولأن الأمر أكثر صعوبة مما يتصور بعض المهتمين فإن هذا ما يدفع للتفكير الجاد بتغيير وسائل التلقي والإنتاج المعرفي المألوفة، وبذل مزيد من الجهد والتعاون مع المتخصصين التكنولوجيين والمصممين والمبرمجين ومطوري الصناعات الرقمية.
أدبيات رقمية أم رقميات أدبية؟
إن السؤال الذي يحتاج للوقوف عليه طويلا ويمكن للإجابة عنه أن تصحح وعينا بالأدب الرقمي هو: هل هذا الاشتغال بدافع أدبي أم بدافع تكنولوجي؟ وهل يمكن أن تختلف النتائج باختلاف الدوافع؟ إن أغلب الأدباء ونقاد الأدب الرقمي العرب يعالجون المسألة بأدوات نقدية وأدبية تقليدية في جوهرها، ترى نظريا أن التكنولوجيا تالية أو مساوية للأدب في الأهمية، ويرفضون إخراج تلك الأعمال الإبداعية خارج دائرة الأدب وأنواعه المألوفة، إلا أن المفارقة تكمن في أن جل العناية النقدية لديهم موجهة نحو الجانب الجديد وهو التكنولوجيا وتطبيقاتها، فتجدهم يجتهدون في تحليل الروابط التشعبية، واستظهار جماليات الأصوات والألوان والحركات والتفاعلات الحقيقية أو المجازية وتجلياتها، ولا يلتفتون إلى النص الأدبي بذاته ولذاته إلا بمقدار اتصاله بالجانب التقني، ويعلم المتابعون للمشهد عربيا وعالميا أن الكلام السابق ينطبق فقط على المشهد العربي، الذي ما زال فيه مبدع النص الأدبي الرقمي وناقده يتجاهل أو يغيب عن وعيه أن المكون اللغوي هو العنصر الأساسي الذي لا يمكن الاستغناء عنه فيما يقدم للمتلقي، في حين يمكن الاستغناء عن كثير من العناصر التقنية أو استبدالها دون أن يتأثر العمل تأثرا جوهريا.
يطرح بعض المهتمين والمتابعين للأدب الرقمي توصيف اللعب رديفا للأدب لبعض الأعمال الإبداعية الرقمية، على نحو يبرز التعارض الحاد بين المتمسكين بحدود النظرية الأدبية المعروفة، والخارجين على كل التقاليد الأدبية، لاستحالة الجمع بين الأدب واللعب إلا في حدود مجازية، فمن وجهة نظر الأدباء والنقاد ينفتح الحديث عن حضور اللعب والألعاب في النظرية الأدبية على بابين: الباب الأول يتصل بفلسفة اللعب، وفيه نجد أن المقاربة مجازية قائمة على مبدأ التوافق والتشابه بين القواعد والقوانين التي تحكم الألعاب والآداب وتنظم سيرورتها، وتسمح بالمحاكاة والتقليد مرات عديدة، أما الباب الثاني فيتصل بغاية اللعب، ونجد فيه أن الإمتاع والتسلية تصبح هدف العمل الأدبي الأساسي وغايته، وهو قليل جدا إذا ما قورن بمجمل المنجزات الأدبية، ولذلك يقول صاحب كتاب الألعاب في النظرية الأدبية: "إن منظري الأدب قد جذبتهم حقيقية أن الأدب مثله مثل الألعاب يخضع لقواعد، ففكرة الشعرية كلعبة قد تجذرت في الكلاسيكية، وحسب هذا المنظور فإن الإبداع الفني يتمثل في تجاوز عقبات اللغة، واحترام القواعد الشعرية، وابتكار أسلوب للعبة الشخصية"، لكن الذي كان مجازا وفلسفة نظرية بات حقيقة وواقعا متحققا بفضل التكنولوجيا وتطبيقاتها، وتؤكد لبيبة خمار ذلك بالقول "إن الأدب الورقي كان حريصا على تقنية اللعب لكنها لم تعرف تحققها الفعلي والملموس إلا بتطور الشبكة العنكبوتية وظهور النصوص التخييلية الرقمية التلفظية والأيقونية التي تولت وضع عدة مفاهيم وطرائق تعمل على خلق التفاعل الذي يعد شرطا لكل لعب"، لكن الإشكالية بعد هذا التحقق الملموس لتقنية اللعب تكمن في جوهر التحقق، فهل تقنية اللعب وسيلة أدبية
رقمية أم غاية؟
هذه الحالة من الالتباس بين الأدب واللعب دفعت بعض المبدعين للنظر إلى أعمالهم على أنها شكل من أشكال اللعب الأدبي، وهذا ما فعله مثلا المدون أحمد ناجي في عمله "روجرز" على مدونة وسع خيالك، وكذلك حين يعنون الشاعر ناصر مؤنس ديوانه التوليدي "مهرج زرادشت- ليس لعبة ليس كتابة"، وقبلهما نجد ذلك عند رائد الشعر الرقمي الغربي (روبرت كاندل)، وتحديدا في عمله الرقمي (clues)، الذي يقدم له على أنه لعبة كلمات، ويدرج في مقدمته رابطين نشطين من ضمن الروابط، عنوان الأول: (The Game)، والثاني: (The Rules)، ويدعو المتلقي لممارسة اللعبة، ولعل هذا الهاجس مرده أن ما نعاينه لم يعد أدبا خالصا ولا يمكن أن يكون لعبا خالصا.
في الجانب الآخر، يرى المعلوماتيون الأدباء -وقليل ما هم في عالما العربي- أن الاشتغال الأساسي هو اشتغال تكنولوجي، لا يقف في تطبيقيه وتجريبه وتحديثه الدائم والمستمر عن حدود معينة، ولا يرى للأدب حرمة تمنع من إقحام عناصر غير أدبية في بناء الأعمال الأدبية، لأن المقصد الأساسي لهذه التطبيقات أبعد من حدود الاشتغال الأدبي، ولتوضيح المسألة نضرب مثالا على ذلك بمفهوم "الرواية المرئية Visual Novels " الذي وقفنا عليه في مقدمة حديثنا، فنحن وضحنا أن الأمر كله يتعلق بالرواية بمفهومها الأدبي التقليدي وما ينبني على تقديمها للقارئ/المتلقي/المشاهد من خلال حاضن تقني/ شاشة وليس صفحات الورق.
لكن المعلوماتيين ومصممي الألعاب ينظرون إلى مصطلح "الرواية المرئية" نظرة تختلف كليا عن تلك التي نجدها عن النقاد العرب، ولو استعنا بالشبكة العنكبوتية في البحث عن مصطلح "الرواية المرئية" لوجدنا أن الروايات المرئية: تصنيف يندرج تحت الألعاب، ابتكره صانعو الألعاب في اليابان وانتقل منها إلى الدول الغربية، وللآن لا يوجد معرفة عربية به، فأغلب الروايات المرئية تم تصميمها باللغة اليابانية، وقليل منها بالإنجليزية ولغات أجنبية أخرى، ولذلك ما زال النقد العربي ينظر لمصطلح "الرواية المرئية" نظرة تختلف كليا عن المفهوم الغربي للمصطلح.
الرواية المرئية تتكون من نصوص سردية كثيرة تحتوي على موسيقى وأصوات، وغالبًا أصوات شخصيات، مع رسومات بسيطة لتوضيح ملامح الشخصيات تُسمى "sprite"، وأغلب الرسومات فيها من "الأنمي"، إلى جانب التصاميم الواقعية، ومن مميزاتها الفارقة لها عن الرواية التقليدية أنك أنت بطل الرواية، لأنها قائمة على مبدأ إعطاء اللاعب القدرة على اتخاذ القرار في عدة خيارات تقوده إلى اتجاه معين في القصة تُسمى مسارات "Route"، وكذلك يمكن للاعب التحرك ومخاطبة الشخصيات، وعندما يخاطب اللاعب شخصية ما فإن صورة هذه الشخصية تظهر كبيرة في وسط الشاشة ويظهر مربع الحديث في الأسفل، وأسلوب اللعب في الرواية المرئية مختلف عن بقية الألعاب، حيث إنه لا يعتمد على مبدأ التحكم أو السيطرة أو تنفيذ التعليمات كما في الألعاب المألوفة، بل اللعب فيها قائم على قراءة النصوص والاستماع ثم اتخاذ القرارات، وعلى اللاعب أن يتذكر دائما أن قراره هو ما يصنع مسار القصة ويوجهها، فربما تكون على المسار الصحيح لكن قرارا قد يتجه بك إلى نهاية مؤسفة، ومن هذا الأساس تحتوي الروايات المرئية على كثير من النهايات.
وترجع أول رواية مرئية إلى عام 1986، والتي تسمى "The Portopia Serial Murder Case" وكانت من نشر "سكوير سوفت"، ثم تطورت وانتشرت، كما تفرع عن الروايات المرئية المصنفة على أنها ألعاب أنواع أخرى من أهمها وأكثرها شيوعا على سبيل المثال: "Gal Game" (مصطلح يطلق على أي رواية بطلها يواعد عدة فتيات)، و"Otome game" (رواية بطلتها فتاة تواعد عدة فتيان)، وغيرها من الأنواع، والحديث عنها يحتاج إلى وقفة مستقلة.
نحن نعاين حالة من الاختلاف والجدل بين مفهوم الأدب الرقمي واللعب الرقمي، وعلى نحو متصل يطرح الباحث المتخصص كريم بهاء سؤالا عن الألعاب الإلكترونية، هل هي سردية أم لا سردية؟ وبعد أن يستعرض الفكرة الأساسية لمجموعة من الألعاب الإلكترونية يقول:" السرديون يرون أن الألعاب الإلكترونية هي نص سردي يمكن دراسته داخل نطاق السرد، وعلى الجانب الآخر دارسو اللعب الإلكتروني يرون العكس تماما، فعلى الرغم من اقتناعهم بأن للألعاب (شخصيات Characters) و(حبكةPlots ) مما يجعلها نصا سرديا إلا أنها بحاجه للدراسة باعتبارها بناء متميزا عن النص السردي، وذلك لكون الألعاب تعتمد على اتصال مواجهي مع المتلقي الذي يقوم بإفراغ شحنة انفعالية داخل هذه اللعبة، وأن الألعاب لا قيمة لها دون هذا التفاعل بين اللاعب والواقع الافتراضي الذي أمامه، ولكن لا ضرورة لأن يكون هناك قصة مسرودة داخل اللعبة فمثل هذا الأمر لن يجعل اللاعب يتوقف عن ممارسة اللعبة"، وينتهي الأمر بالباحث إلى الحكم بأن الألعاب الإلكترونية تتميز بالسردية التفاعلية.
تشير المعطيات والأرقام الإحصائية إلى أن الألعاب الإلكترونية تشهد ثورة غير مسبوقة، وتحقق بشكل مطرد مستويات عالية من التفاعل، وأشكالا مختلفة من التواصل، وتطرح شركات صناعة الألعاب الإلكترونية بصورة دورية أحدث التطبيقات والتقنيات الرقمية الخاصة بتطوير الألعاب، بغية استقطاب شرائح عمرية مختلفة، وفي المقابل يحاول الأدب البحث عن طرائق تناسبه وتناسب التغيرات التي تحيط به، ليستمر في وجوده، من خلال خوض غمار التجريب في توظيف أدوات بنائية تعبر عن طبيعة العصر الذي أنتجها، فالأدب الرقمي وتحديدا السرد الرقمي يريد أن يصبح تفاعليا كالألعاب الرقمية، لكنه لا يريد من أحد أن يصفه بصفة اللعب.
المأزق الكبير للنقد الأدبي أنه بات مطالبا بمعالجة ما هو غير أدبي في أعمال هجينة تجمع بين الأدب والتقنية، دون وعي متكامل بنوعية العمل المستهدف نقديا، ولا الأدوات اللازمة لهذا العمل، فهل يمارس النقد سلطته على أعمال أدبية توظف عناصر تقنية؟ أم أنه سيمارس سلطته على أعمال تقنية وتكنولوجية تحوي عناصر أدبية؟ والحقيقة أن المشهد الإبداعي العربي لا يحتوي إلا على أعمال أدبية تقليدية في أساسها، قام أصحابها بتوظيف عناصر تقنية في بنائها، لكنها في النهاية تحافظ على هوية أدبية واضحة إلى حد كبير، وفي المقابل فإن الغرب المتطور تقنيا قد انتهى من تطوير برمجيات وتطبيقات تقوم بإنتاج أعمال بمواصفات أدبية، وصار بالإمكان شراء برنامج لإنتاج القصائد، وتحميل تطبيق لتوليد النصوص السردية، إلى جانب توفير بيئة إلكترونية تفاعلية لغايات أدبية، وروبوتات تقرأ الأعمال الأدبية وتحللها وتنقدها، وهنا يجب التوقف قليلا، فهل على النقد أن يتوجه للتعامل مع المنتجات الأدبية للبرامج والتطبيقات الإلكترونية؟ أم عليه أن يحافظ على الهوية الحقيقية للأدب؟
إن ملامح المأزق السابق أدبيا ونقديا لا تحمل بالضرورة هاجسا إقصائيا أو بديلا للأشكال الأدبية الأخرى، لكنها تعبر عن شكل من أشكال التحول العصري، وإكراهات العصر الرقمي الذي بدأ يسيطر على الحياة، فالكتابة الإلكترونية لم يكن هدفها إلغاء الكتابة التقليدية، وتقنيات الرسم والتصوير الرقمي لم يكن هدفها إلغاء دور الرسام، وهكذا في أغلب مناحي الحياة، وستبقى حالة التخوف من إفساد الأدب بعناصر غير أدبية مسألة وجيهة، وجديرة بالنظر، لكن ذلك ينبغي ألا ينكر حق الأدب والأديب بممارسة التجريب إلى أقصى حدود يمكن أن يصلها، ولن يكون بمقدور أي ممارسة أن تلغي ممارسة أخرى ما لم تكن جديرة بذلك، وسيبقى الأدب الجيد قادرا على فرض حضوره مهما تغيرت المعطيات التي تحيط به، أو الأدوات التي يستعين بها.
* باحث وأكاديمي من الأردن.